• تصغير
  • تكبير

الكلمة الإفتتاحية لرئيس المجلس السيد ادريس بنزكري

بسم الله الرحمن الرحيم

السيد مستشار صاحب الجلالة

السادة الوزراء

السيد والي المظالم

السيدات والسادة الأعضاء

حضرات السيدات والسادة،

يسعدني أن أرحب بكم جميعا في افتتاح أشغال هذا الاجتماع الخامس والعشرين لمجلسنا متمنيا لها كامل النجاح والتوفيق.

واسمحوا لي في البداية أن أرحب بعضويين جديدين بالمجلس مع تهنئتهما على الثقة المولوية التي حظيا بها، ويتعلق الأمر بالسيد شكيب بنموسى الذي عينه صاحب الجلالة حفظه الله وزيرا للداخلية متمنين له كل التوفيق في مهامه ومعبرين له عن ثبات عزيمتنا في الاستمرار في توطيد علاقات التعاون بين المجلس ووزارة الداخلية، كما سبق وأن عملنا دائما مع خلفه السيد مصطفى الساهل الذي نتمنى له التوفيق في المهام الجديدة، والأستاذ مولاي محمد العراقي الذي عينه جلالة الملك واليا لديوان المظالم إذ نتمنى له التوفيق في مهامه الجديدة وفي تفعيل وتوطيد ما ساهم به خلفه السيد مولاي سليمان العلوي من بناء لهذه المؤسسة، نجدد له إرادة المجلس وحرصه على التعاون الوثيق مع مؤسسة ديوان المظالم، بما يخدم تعزيز حماية حقوق وحريات الأفراد والجماعات ووضع حد لكل الخروقات والمظالم التي يمكن أن تطال أيا كان في بلادنا امرأة أو رجلا، وقد أثلج صدري عندما أخبرني بأنه قد أعد التقرير الذي يقتضي كل من القانونين المؤسسين للمؤسستين عرضه على المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وسنعمل على برمجة عرضه على السادة أعضاء المجلس في الدورة المقبلة إن شاء الله.

حضرات السيدات والسادة،

ينعقد اجتماعنا هذا في مرحلة تتميز بسياقات خاصة في مجال حقوق الإنسان والبناء الديموقراطي في بلادنا، ذلك أننا نجتمع بعد نهاية ولاية هيئة الإنصاف والمصالحة وانخراط مجلسنا في تفعيل توصياتها، طبقا لما كلفه به صاحب الجلالة الملك محمد السادس، حفظه الله، في خطابه الموجه إلى الأمة بمناسبة انتهاء الهيئة من مهامها وتقديم تقريرها الختامي، وعرض التقرير حول حصيلة 50 سنة من التنمية البشرية بالمغرب. فالسياق الأول يتمثل في كون بلادنا نجحت والحمد لله في تسوية ملف ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وقد أقدمت على ذلك، كما جاء في الخطاب الملكي السامي، «بكل شجاعة وحكمة وثبات... ضمن مسار نموذجي وفريد، تمت فيه تسوية الملفات الشائكة، وذلكم في إطار التغيير داخل الاستمرارية، التي تطبع نظامنا الملكي» (انتهى كلام صاحب الجلالة). فالمقاربة التي اعتمدتها بلادنا لتسوية هذا الملف، من خلال مسار الحقيقة والإنصاف والمصالحة، ساهمت اليوم في انتقال بلادنا من مرحلة التوافق على الإصلاحات في ميادين أساسية في البناء والهيكلة لمجتمع ديموقراطي حداثي (الإصلاحات التشريعية والمؤسساتية التي همت القانون الجنائي والمسطرة الجنائية، مدونة الأسرة، مدونة الشغل، إعادة الاعتبار لمكونات الثقافة الوطنية المختلفة، وتوسيع مجال حرية التعبير...)، إلى مرحلة توطيد المكتسبات وإرساء أسس المصالحة المتمثلة أساسا في استرجاع الثقة في حكم القانون والاحتكام إليه في حل الخلافات، مهما كانت طبيعتها وبواعثها. فخروقات حقوق الإنسان، مهما كانت، جسيمة أو غير جسيمة، ومتى حصلت، في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، لا يمكن أن يوجد لها أي مبرر مهما كان، فوسيلة مواجهتها هي القانون والمؤسسات. كما أن أساس المصالحة يكمن أيضا في توسيع نطاق مشاركة الجميع، نساء ورجالا، في حوار هادئ وشفاف لكل ما جرى، والانخراط في تعزيز الحق في معرفته بما يحفظ الذاكرة ويحصن المستقبل.

ومن بين النتائج الملموسة أيضا لمسار الحقيقة والمصالحة في بلادنا اليوم هو تعزيز اختصاصات كل المؤسسات العاملة في مجال حقوق الإنسان، رسمية وغير رسمية، حيث أصبح على الجميع اليوم، في هذا السياق، أن يعمل على الرفع من أدائه لمواجهة كل خروقات حقوق الإنسان، خاصة وأن الترسانة القانونية أخذت تتقوى (تجريم التعذيب)، كما أن الممارسة الاتفاقية لبلادنا في تطور ملحوظ (المصادقة على الاتفاقيات والصكوك العالمية ورفع وتيرة تقديم التقارير الدورية للمحافل الدولية المختصة ورفع التحفظات عن بعض الاتفاقيات الدولية التي تم التصديق عليها). بفضل هذا المسار، انخرط المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، من جانبه، في تطوير أدائه في مجال التصدي للانتهاكات، من خلال توظيف التجربة المكتسبة في مجال التحريات والتقصي خلال فترة عمل الهيئة.

وحيث أن أفضل ضمانة ليس فحسب لعدم تكرار ما جرى ولكن لبناء المستقبل في مجال حقوق الإنسان هي النهوض بالثقافة المتعلقة بهذه الأخيرة، فإن المجلس قد أطلق مسارا لوضع خطة عمل وطنية للنهوض بثقافة حقوق الإنسان، مبنيا على التشاور والحوار والشراكة مع مختلف الفاعلين، من قطاعات حكومية ومجتمع مدني وخبراء من الجامعة وغيرها، وشركاء دوليين. ومنذ أسبوعين نظمت الورشة الثانية في هذا الإطار بمقر المجلس من أجل تقديم التقييمات والمقترحات القطاعية والموضوعاتية في المجالات الثلاثة الرئيسية للنهوض بثقافة حقوق الإنسان (التعليم والتربية، التكوين وإعادة التكوين، التحسيس والتوعية)، وتم خلالها خلق آلية للتبع والتشاور من أجل وضع هذه الخطة الوطنية من طرف الجميع. وقد شددنا كثيرا على أن تكون التمثيلية في هذه الآلية مبنية على المواظبة في المشاركة في أشغالها والخبرة والمعرفة بمجالات ومواضيع الخطة المزمع الانتهاء من إعدادها واعتمادها في أقرب وقت ممكن، كما حرصنا على إشراك كل الفاعلين في المجال، على أساس أن يشكل المجلس فضاء للحوار والمناقشة، وأن تكون الخطة نتاج مجهود جماعي، وأن تكون مناسبة إعدادها أيضا فرصة لتوطيد قيم وممارسة الشراكة والمشاركة والحوار المفتوح والمسؤول، خاصة وأن هذا المسلسل يتوخى خلق سلوكات ومواقف جديدة قوامها احترام مبادئ وقيم حقوق الإنسان، ضمانا لاستدامة احترام القانون والاحتكام لمقتضياته. وفي هذا السياق ينبغي التذكير بالدور الذي نسعى لأن يقوم به مركز التوثيق والإعلام والتكوين في مجال حقوق الإنسان، من إشعاع لمثل هذه الثقافة على المستوى الوطني وبالمنطقتين الإفريقية والعربية، طبقا لما نرسمه له من اختصاصات تستجيب لمتطلبات المرحلة.

حضرات السيدات والسادة،

يتميز انعقاد اجتماعنا كذلك بمرور سنة تقريبا على إطلاق صاحب الجلالة الملك محمد السادس، حفظه الله، لورش وطني كبير يتمثل في المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي تستند إلى مقاربة قوامها التشارك والمشاركة. فالمجلس تابع بعناية كبيرة انطلاق هذا المشروع وأدرج بعده الحقوقي ضمن مسلسل التشاور والتفكير حول توصيف الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية ببلادنا، قصد تعزيز اعتماد المقاربة الحقوقية في البرامج والمشاريع المعتمدة ضمن المبادرة المذكورة. كما أننا نعمل على توظيف كل مضامين وخلاصات تقرير 50 سنة من التنمية البشرية في توصيف تلك الحقوق وتطوير المقاربة الحقوقية في مجالات التنمية البشرية. وفي هذا الإطار نؤكد عزمنا على وضع مشروع ميثاق المواطنة الذي باشرنا منذ سنة المرحلة الأولى الخاصة بالتوثيق ومناقشة الأسس المنهاجية للشروع في وضع المشروع الأولي له، إيمانا منا بأن التراكمات الحاصلة اليوم في مجال حقوق الإنسان ببلادنا والتحديات التي تنتظرنا أصبحت تطرح ضرورة مثل هذا الميثاق. وكما جاء في الخطاب الملكي السامي المذكور، فإن الغاية المثلى تتمثل في «ترسيخ دعائم المجتمع التضامني، الذي يكفل الكرامة والمواطنة المسؤولة لكافة أبنائه، في تلازم تام بين ممارسة الحقوق وأداء الواجبات...» (انتهى كلام صاحب الجلالة).

حضرات السيدات والسادة،

السياق الدولي الذي ينعقد فيه اجتماعنا اليوم يتميز بتطور حركة الإصلاحات التي تعرفها منظومة الأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان، سواء من حيث الأجهزة والبنيات، أو من حيث ممارسة التقارير الدورية المقدمة لأجهزة المراقبة، المحدثة بموجب الصكوك الدولية لحقوق الإنسان، أو فيما يتعلق بالمساطر الخاصة للبحث والتقصي والمقررين الخاصين في الميادين المختلفة لحقوق الإنسان. وفي هذا الصدد، انخرط المجلس في دبلوماسية موازية ليس فقط للتعريف بالمكتسبات وما حققته بلادنا في مجال تعزيز حماية حقوق الإنسان والبناء الديموقراطي، ولكن أيضا للمشاركة بتقديم الآراء والتصورات والاقتراحات في الميادين المختلفة موضوع الإصلاحات المذكورة. وفعلا فإن النتائج التي حققتها بلادنا من خلال مسار الحقيقة والإنصاف والمصالحة وتعزيز حماية حقوق الإنسان جعلتنا في وضع مريح وزادت من ثقتنا وعزمنا على الانخراط أكثر فأكثر في هذا المسار الإصلاحي على مستوى المنظومة الأممية لحقوق الإنسان. فالتجربة المغربية أصبحت اليوم تستقطب اهتمام جهات عدة عبر العالم، بل هناك مطالبة متزايدة بضرورة اقتسام هذه التجربة مع جهات أخرى من العالم تعتزم الانخراط في نفس المسارات. ولذلك عمل المجلس، منذ الشهور الأربعة الماضية، على تنظيم زيارات لعدة دول بأروبا وأمريكا وإفريقيا والعالم العربي، ليس للتعريف فحسب بالتجربة المغربية ولكن أيضا للمساهمة في تأطير وتنشيط مجموعة من الأوراش والندوات الخاصة بالعدالة الانتقالية بطلب من الجهات المنظمة لها، وذلك بمساهمة من أعضاء أو أطر من المجلس.

حضرات السيدات والسادة،

لا يفوتني أن أذكر أيضا بسياق آخر لاجتماعنا ألا وهو التوجهات الكبرى، التي انخرطت فيها البلاد اليوم في مجال التفكير والحوار حول السياسة الجنائية، في أفق تغيير أسس التجريم والعقاب بما يستجيب لمتطلبات حماية الحقوق والحريات. ونعتبر استكمال أشغال هذا الورش بمثابة ضمانة أساسية لتوطيد حقوق الإنسان، وحل العديد من المعضلات التي تواجهنا كأوضاع السجون التي أولاها المجلس عناية خاصة، من خلال تقريره الموضوعاتي الأول الذي جاء تتويجا للزيارات الميدانية التي نظمها المجلس لمختلف المؤسسات السجنية ومراكز حماية الطفولة، وما تمخض عنها من توصيات. وبهذه المناسبة أود التذكير بأن المجلس عمل، منذ الأسابيع الثلاثة الأخيرة، على تنظيم زيارات ميدانية لمجموعة من المؤسسات المذكورة، وإن كان قد لاحظ جوانب تحسن ملموس على مستوى انشغالاته بأوضاع السجناء والمؤسسات السجنية، فإنه لا زال يلح على مضاعفة الجهود، ويعتبر ورش السياسة الجنائية أحد المفاتيح الرئيسية لحل العديد من المشاكل المترتبة عن تدبير تلك المؤسسات. وفي هذا الصدد نشدد على ضرورة تبوء التكوين وإعادة التكوين، في هذا المجال، المكانة التي تستحقها في خطة العمل الوطنية للنهوض بثقافة حقوق الإنسان التي انطلق مسلسل إعدادها على النحو المذكور سابقا.

حضرات السيدات والسادة،

ينكب المجلس، منذ حوالي سنة، على إعادة هيكلة إدارته وتأهيل موارده البشرية، بما يستجيب للمتطلبات والسياقات المذكورة، عاملا على توظيف كل الخبرات والكفاءات التي تم اكتشافها أو المساهمة في تكوينها، خلال مدة ولاية هيئة الإنصاف والمصالحة. وقد تبين لنا من خلال تقييم أولي مدى ضرورة إعادة النظر ليس فقط في البنيات الإدارية للمجلس، ولكن أيضا في هندسة فرق عمل المجلس وطرق اشتغالها، وسنوافي السيدات والسادة أعضاء المجلس بتصور حول هذا الموضوع في الدورة المقبلة إن شاء.

حضرات السيدات والسادة،

لا يفوتني في نهاية كلمتي أن أشكر كل السيدات والسادة أعضاء المجلس والأعضاء السابقين بالهيئة، من خارج وداخل المجلس، على كل ما بذلوه ويبذلونه من تفان من أجل تحسين أداء مؤسستنا الوطنية في مجال تعزيز حماية حقوق الإنسان وترسيخ ثقافتها في النسيج الاجتماعي. كما أشكر كل الطاقم الإداري والتقني للمجلس وطاقم المساعدين الذين استعانت بهم الهيئة أو لجنة متابعة تنفيذ توصياتها على مستوى الانخراط والمجهود المبذول بكفاءة ونزاهة.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

رئيس المجلس

إدريس بنزكري

أعلى الصفحة